0


لما كان القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساسي لشرائع الإسلام ورسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وجه أعداء الإسلام سهامهم إليه بغرض إثارة الشبهات حوله، والتشكيك في مصدريته، ومحاولة رفع الثقة عنه، مستغلين في ذلك بعض الروايات الواهية والإسرائيليات المبثوثة هنا وهناك لتأييد صحة دعواهم، فأخذوا يزيدون فيها، ويحورونها بما يتفق ونواياهم الخبيثة في هدم الإسلام وتشويه صورته باسم التحقيق العلمي والبحث الموضوعي.

نجد ذلك على سبيل المثال في "دائرة المعارف الإسلامية" التي وضعت من قبل المستشرقين للتعريف بدين الإسلام، حيث يقول المستشرق الهولندي "شاخت" تحت مادة (أصول): "إن أول مصادر الشرع في الإسلام وأكثرها قيمة هو الكتاب، وليس هناك من شك في قطعية ثبوته وتنزيهه عن الخطأ على الرغم من إمكان سعي الشيطان لتخليطه".

ويقول بروكلمن في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية": "ولكنه - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - على ما يظهر، اعترف في السنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات اللّه، ولقد أشار إليهن في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: ( تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن ترتضى ).

ويقول المستشرق الدانماركي "بوهل": "... تشير الروايات الموثوقة المعتمد عليها أنه سمح لنفسه أن تغوي بواسطة الشيطان لمدح اللات والعزى ومناة إلى حدٍّ ما، لكنه اكتشف زلته فيما بعد، ثم أوحيت إليه الآية 19 من سورة النجم".

وأما "مونتجومري وات" فقد قال في كتابه: "محمد الرسول والسياسي": "رتَّل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنها جزء من القرآن، ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه الآيات لا يجب أن تعتبر جزءاً من القرآن، وقال: وكان يريد قبولها في الوهلة الأولى.....".

وهم يشيرون بذلك إلى قصة الغرانيق التي أوردها بعض المفسرين وأصحاب المغازي والسير ورويت بألفاظ مختلفة حاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى قولـه تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} (النجم: 19-20)، فجرى على لسانه: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فسمع ذلك مشركوا مكة فَسُرُّوا بذلك، فاشتَدَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم} (الحج: 52).

وقد اعتمد المستشرقون على هذه القصة مع أنها ظاهرة التهافت، واضحة البطلان، مع تعرض الأئمة لها بالنقد من قديم الزمان وحتى عصرنا الحاضر، لما فيها من القدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بأمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وجواز أن يجري الكفر على لسانه، وأن يزيد في القرآن ما ليس منه، وأن يكون للشيطان عليه سبيل، وحينئذ ترتفع الثقة بالوحي جملة، وينتقض الاعتماد عليه بالكلية، وينهدم أعظم ركن من أركان الشريعة، وهو ما يريده أعداء الدين، وسنناقش فيما يلي أوجه رد هذه القصة من حيث الرواية والدراية.

رد القصة من حيث الرواية

من المعلوم أن الاحتكام في قبول الأحاديث أو ردها يجب أن يكون إلى القواعد والضوابط التي وضعها أهل هذا الفن لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه ، فليس كل ما يروى وينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يكون من قوله، ومن تلك القواعد النظر في الأسانيد والرواة ، ولو تتبعنا أسانيد هذه القصة فإننا سنجد أن الحديث الوارد فيها لم يرو موصولاً إلا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وإن كان قد روي مرسلاً عن عدد من التابعين.

وجميع الطرق الموصولة إلى ابن عباس رضي الله عنهما واهية شديدة الضعف لا يصح منها شيء ألبتة كما قال المحدثون، وأما المرسلة فلا يصح منها إلا أربع روايات وهي رواية سعيد بن جبير وأبي العالية وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وقتادة.

وهذه الروايات وإن صحت إليهم فإن ذلك لا يعني قبولها والاعتماد عليها لأنها مراسيل، والمرسل -كما هو معلوم عند جماهير المحدثين- في عداد الحديث الضعيف، وذلك لجهالة الواسطة، واحتمال أن يكون غير صحابي، وحينئذ يحتمل أن يكون ثقة وغير ثقة، فلا يؤمن أن يكون كذاباً.

قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"، ومثله قال الإمام ابن الصلاح في مقدمته: "... وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضَعفه، هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث، ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (7/435): "وأما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل: "ثلاث علوم لا إسناد لها، وفي لفظ ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم، ويعني أن أحاديثها مرسلة".

ولو نظرنا فيمن صحت عنه هذه المراسيل لوجدناهم من طبقة واحدة ، فوفاة سعيد بن جبير سنة (95) وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة (94)، وأبي العالية سنة (90)، وقتادة سنة بضع عشرة ومائة، والأول كوفي، والثاني مدني، والأخيران بصريان.

فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا عنه هذه القصة واحداً ، وجائز أن يكون جمعاً ولكنهم جميعاً ضعفاء ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا ، لاسيّما في مثل هذا الأمر العظيم الذي يمسّ مقام النبوة ، فلا جرم حينئذ أن يتتابع العلماء على إنكار هذه الرواية والتنديد ببطلانها.

فقد سئل عنها الإمام ابن خزيمة فقال: "هذه القصة من وضع الزنادقة" نقل ذلك الفخر الرازي في تفسيره (23/44)، ونقل عن الإمام البيهقي قوله: "هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل".

وقال ابن حزم في كتاب "الفصل في الأهواء والنحل" (2/311): "وأما الحديث الذي فيه: (وأنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى) فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد" اهـ .

وقال القاضي عياض في الشفا (2/79): "هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل....، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فيما أحسب - الشك في الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة ....، وذكر القصة"، ثم نقل كلام البزار وقال: "فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه.

قال: وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البراز رحمه الله، والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {والنجم} وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" اهـ .

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/239): "قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم" اهـ .

وقال الشوكاني: "ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه"، وهذا هو مذهب أكثر المفسرين والمحدثين ، وممن ذهب إليه الجصاص، وابن عطية وأبو حيان، والسهيلي، والفخر الرازي، والقرطبي، وابن العربي، والآلوسي، وأبو السعود، والبيضاوي، والقاسمي، والشنقيطي، والمنذري، والطيبي، والكرماني والعيني وغيرهم.

ولولا الرغبة في الاختصار لاستعرضنا هذه الروايات وعللها، وكلام أهل العلم عليها على وجه التفصيل، ومن أراد الاستزادة حول الروايات والطرق فليرجع إلى كتاب الشيخ الألباني رحمه الله: "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق"، وكتاب "التحقيق في قصة الغرانيق" لأحمد بن عبد العزيز القصير.

وسنعرض لرد القصة من حيث الدراية في مقال لاحق بإذن الله تعالى.

إرسال تعليق

 
Top