0

من الأمور المعلومة بداهة أنه لا سبيل إلى معرفة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث وأخبار إلا عن طريق الرواة والنقلة الذين نقلوا أخباره جيلاً بعد جيل وطبقة بعد طبقة حتى دونت السنة في الكتب المعتمدة المعروفة ، ولذلك كان الاطلاع على أحوال هؤلاء الرواة والنقلة ، وتتبع مسالكهم ، وإدراك مقاصدهم وأغراضهم ، ومعرفة مراتبهم وطبقاتهم ، وتمييز ثقاتهم من ضعافهم هو الوسيلة الأهم لمعرفة صحيح الأخبار من سقيمها ، مما نتج عنه نشوء علم عظيم وضعت له القواعد ، وأسست له الأسس والضوابط ، فكان مقياساً دقيقاً ضبطت به أحوال الرواة ، من حيث التوثيق والتضعيف ، ذلك هو " علم الجرح والتعديل " الذي لا نظير له عند أمة من الأمم ، حتى عُدَّ هذا العلم نصف علم الحديث .

والذي يطالع كتب الرجال والتراجم والجرح والتعديل ، يقف مبهوراً أمام هذا العلم الذي لا يمكن أن يكون وضع صدفة أو تشهياً ، بل بذلت فيه جهود ، وفنيت فيه أعمار حتى بلغ قمة الحسن ومنتهى الجودة .

ولأهمية هذا العلم وأثره في ضبط السنة وحفظها ، وسدِّ الأبواب أمام المتلاعبين ، جاء الطعن فيه من قبل المستشرقين والمستغربين على حد سواء ، حيث نبتت نابتة في الأزمة المتأخرة زعمت أن جرح الرواة وتعديلهم لم يكن مضبوطاً بضوابط معروفة ، بل كان قائماً على الفوضى والمزاجية ، وبحسب ما تمليه الظروف والأهواء والحظوظ النفسية ، فليس هناك قواعد علمية دقيقة يحتكم إليها المحدثون ، ولهذا كان للاختلاف المذهبي والطائفي أثره في تحامل المحدثين في حكمهم على بعض الرواة ، حيث وثقوا من لا يستحق التوثيق ، وضعفوا من لا يستحق التضعيف ، وبالتالي صححوا أحاديث لم تكن لتبلغ هذه الدرجة ، مما يوجب عدم الثقة بمنهجهم في الجرح والتعديل ، ورد كثير من الروايات التي أثبتوها بناء على ذلك .

قال " جوينبل " : " والحكم على قيمة المحدث قد يختلف اختلافاً بيناً ، فربما كان ثقة عند قوم ، ولكن عند غيرهم كانوا يعدونه في منتهى الضعف ، وربما اعتبروه كاذباً في روايته ".

ويقول " أحمد أمين " في ضحى الإسلام : " إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف فبعض يوثق رجلاً ، وآخر يكذبه ، والبواعث النفسية على ذلك لا حصر لها ، ثم كان المحدثون أنفسهم يختلفون في قواعد التجريح والتعديل ، فبعضهم يرفض حديث المبتدع مطلقاً كالخارجي والمعتزلي ، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث التي لا تتصل ببدعته ، .... - إلى أن قال - : وبعض المحدثين يتشدد فلا يروي حديث من اتصلوا بالولاة ، ودخلوا في أمر الدنيا مهما كان صدقهم وضبطهم ، وبعضهم لا يرى في ذلك بأساً متى كان عدْلاً صادقاً ، وبعضهم يتزمت فيأخذ على المحدث مزحة مزحها .... إلى غير ذلك من أسباب يطول شرحها ، ومن أجل ذلك اختلفوا اختلافاً كبيراً في الحكم على الأشخاص ، وتبع ذلك اختلافهم في صحة روايتهم والأخذ عنهم " .

ويقول في فجر الإسلام " وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح ، فأهل السنة يجرحون كثيراً من الشيعة ، حتى إنهم نصوا على أنه لا يصح أن يروى عن علي ما رواه أصحابه وشيعته ، إنما يصح أن يروى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود ، وكذلك كان الشيعة من أهل السنة فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت وهكذا ، ونشأ عن هذا أن من يُعَدِّله قوم قد يجرحه آخرون ، قال الذهبي : " لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف ، ولا تضعيف ثقة " ، ومع ما في هذا القول من المبالغة فهو يدلنا على مقدار اختلاف الأنظار في التجريج والتعديل " .

ويقول " أبو رية " : " إن علماء الجرح قد اختلفوا في الجرح والتعديل باختلاف مذاهبهم وأحوالهم " .

ولرد هذا الكلام المتهافت ينبغي أن يعلم بداية أن التجريح والتعديل لم يكن متاحاً لأي أحد ، وأن المسألة لم تكن بهذه الفوضى والعشوائية التي يريد أن يصورها هؤلاء ، وذلك لخطورة الجرح وعظم مسؤوليته أولا ً ، فإن الكلام في أعراض الناس والإقدام على الطعن في المسلمين مزلة أقدام ، وشفا هلكة ، قال ابن دقيق العيد رحمه الله : " أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان المحدثون والحكام " .

والأمر الآخر أن ذلك يتطلب من الأهلية والمُكْنة ما لا يمكن أن يصل إليه إلا القلة من جهابذة النقاد والمحدثين ، الذين لديهم اطلاع واسع على الأخبار والمرويات وطرقها ، ومعرفة تامة بأحوال الرواة ومقاصدهم وأغراضهم ، والأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الوهم والخطأ ، مع معرفة بأحوال الراوي وتاريخ ولادته ، وبلده ، وديانته وأمانته وحفظه وسلوكه ، وشيوخه وتلاميذه ، ومقارنة مروياته بمرويات غيره إلى غير ذلك ، وهي منزلة لا يصل إليها كل أحد ، وليس أدلَّ على ذلك من أن رواة الأخبار كثيرون يعدون بالألوف ، وأما النقاد الحاذقون فإنهم قليل لا يتجاوزن أصابع اليد في كل طبقة ، وهؤلاء الأئمة الذين بلغوا هذه المرتبة لم يبلغوها إلا بعد استيفائهم للشروط التي تؤهلهم للتصدي لهذا الأمر .

وقد قام الأئمة بهذا الواجب حسبة لله ، وصيانة لدينه ، وحفاظاً على سنة نبيه ، قال أبو بكر بن خلاد ليحي بن سعيد : " أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماؤك عند الله ؟ فقال : لأن يكونوا خصمائي أحب إليَّ من أن يكون خصمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذب عن حديثي ؟" فلم يكن الحامل لهم إذاً الأهواء أو الحظوظ النفسية أو غير ذلك من المقاصد السيئة كما زعم المرجفون ، ولذلك لم يجاملوا أحداً حتى ولو أقرب الأقربين ، فوجدنا منهم من يضعف والده وولده وأخاه ، وقد سئل علي بن المديني عن أبيه فقال : اسألوا غيري ، فقالوا : سألناك ، فأطرق ثم رفع رأسه وقال : " هذا هو الدين أبي ضعيف " ، وقال أبو داود صاحب السنن " ابني عبد الله كذاب " ، وقال زيد بن أبي أنيسة : " لا تأخذوا عن أخي يحيى " ، فكيف يقال بعد ذلك إن أحكامهم كانت صادرة نتيجة بواعث نفسية ؟ .

وقد وضع العلماء لهذا العلم قواعد وضوابط فتكلموا في شروط قبول الجرح والتعديل ، وألفاظهما ومراتبها ، وكيف يثبت تعديل الراوي وتجريحه ، وما هو العمل إذا تعارض الجرح والتعديل ؟ إلى غير ذلك من المباحث والقواعد المبسوطة في كتب المصطلح وعلوم الحديث ، والتي تضمن نزاهته وعدم الحيف في الحكم على الرواة .

ومن ذلك أنهم اشترطوا في الجارح أن يكون مجانباً للهوى والعصبية والغرض الفاسد ، فلم يعتمدوا أي جرح لا يستند على أصول شرعية بل ردوه على قائله كائناً من كان ، ومن ذلك ما جرى بين الأقران والنظراء ، لأن فلتات الألسن لا يسلم منها بشر فربما حدث غضب لمن هو من أهل التقوى ، قال السبكي : " الجارح لا يقبل منه الجرح وإن فسَّره في حق من غلبت طاعاته على معاصيه ، ومادحوه على ذاميه ، ومزَكُّوه على جارحيه ، إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه ، من تعصب مذهبي ، أو منافسة دنيوية ، كما يكون بين النظراء أو غير ذلك " .

وأما الزعم بأن الناقد قد يأخذ على الراوي مزحة مزحها فيُجْرح بسببها وترد روايته ، فلا يخفى ما في هذا القول من التشويه والتلبيس المتعمد فإن المطالع لكتب الجرح والتعديل يجد أنهم ينصون على ضرورة ذكر سبب الجرح وتفسيره ، لأن الجارح ربما قدح بأمر ليس جارحاً في الحقيقة ، وقد عقد الخطيب البغدادي - في كتابه الكفاية - باباً في " ذكر بعض أخبار من استُفْسِر في الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة " ، وأورد عدة أمثلة على ذلك تبين أن مثل هذه الأمور مما لا يقدح في الراوي ، ولذلك لم يقبلها العلماء ولم يعولوا عليها .

وأما اختلاف الأئمة في الرواة بين مجُرِّح ومُعَدِّل فمردُّه إلى اختلاف الأنظار ، وتباين الاجتهاد في أحوال الرواة حفظاً ونسياناً ، ووهماً وضبطاً ، كما تختلف اجتهادات المجتهدين في الأحكام الفقهية ، والمسائل الفرعية ، لأنه دخول وهم الرواي في حيِّز الكثرة أمر لا يوزن بميزان معلوم ، وإنما يرجع فيه إلى التحري والاجتهاد .

فالمحدثون يستعملون سائر الشروط المقررة عندهم ولكنهم يتفاوتون في تطبيقها بين متشدد ومعتدل ومتساهل ، تبعاً لتطبيق هذه القواعد ، يقول الإمام الذهبي مبيناً أقسام المتكلمين في الرجال ، وكيفية التعامل مع أقوالهم :

1- قسم منهم متشدد في الجرح ، متثبت في التعديل ، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، ويُلَيِّنُ بذلك حديثه ، فهذا إذا وثَّق شخصاً فعُضَّ على قوله بناجذيك وتمسك بتوثيقه ، وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه ، فإن وافقه ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق ، فهو ضعيف ، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه : لا يقبل تجريحه إلا مفسراً ، يعني لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلاً: ضعيف ، ولم يوضح سبب ضعفه ، وغيره قد وثقه ، فمثل هذا يتوقف في تصحيح حديثه ، وهو إلى الحسن أقرب ، وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متشددون .

2- وقسم في مقابلة هؤلاء ، كأبي عيسى الترمذي ، وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر البيهقي متساهلون .

3- وقسم كالبخاري ، وأحمد بن حنبل ، وأبي زرعة ، وابن عدي معتدلون منصفون " .

وبذلك ندرك أن اختلاف المحدثين ناشئ عن تعدد اجتهاداتهم كما هو الحال بالنسبة للفقهاء ، ولكن هذا الاختلاف لا يجوز أن يتخذ وسيلة للادعاء بتعذر الحكم على الرجال، وإضعاف الثقة بمنهجهم ، فهم وإن اختلفوا في بعض الأسباب فقد اتفقوا في كثير منها .

وأما الاستدلال بعبارة الذهبي التي قال فيها : " لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن ، على توثيق ضعيف ، ولا تضعيف ثقة " ، فهو استدلال في غير موضعه ، وفهم على غير مراده ، فقد فهم " أحمد أمين " من العبارة أنه لم يتفق اثنان على توثيق رجل ولا على تضعيفه ، بل من يوثقه هذا يجرحه ذاك ، والعكس بالعكس ، وهو خلاف المقصود من العبارة عند تدقيق النظر ، فإن الإمام الذهبي رحمه الله قال - بعد أن تكلم عن مسائل في الجرح والتعديل ، واختلاف الأنظار في ذلك - : " ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى ، لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمداً ولا خطأ ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ، ولا على تضعيف ثقة ، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة ، أو مراتب الضعف ، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده ، وقوة معارفه ، فإن ندر خطؤه في نقده ، فله أجر واحد والله الموفق " ، فعُلِم من ذلك أن مراده أن علماء هذا الشأن متثبتون في نقد الرجال ، فلم يقع منهم أن اختلفوا في توثيق رجل اشتهر بالضعف ، ولا في تضعيف رجل عرف بالصدق والتثبت ، وإنما يختلفون فيمن لم يكن مشهوراً بالضعف أو التثبت ، فلن يختلف اثنان مثلاً في توثيق مالك والثوري وابن المبارك وأمثالهم ، ولن يختلف اثنان في جرح محمد بن سعيد المصلوب وأمثاله ، وإنما يختلفون في متوسط الحال كمحمد بن إسحاق صاحب المغازي والسير ، و الحارث الأعور فيتشدد فيه بعضهم ، ويقبله آخرون لتعدد جهات الضعف عندهم ، واختلافهم في بعض أسبابها .

وأما الادعاء بأن الاختلاف المذهبي والطائفي كان له تأثير على الحكم على الرواة وتجريحهم ، فإن أهل السنة لم يكونوا يجرحون مخالفيهم من أهل الأهواء والبدع إلا إذا كانت بدعته تؤدي إلى كفر ، أو وقوع في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أن يكون داعية إلى بدعته لأن الداعية قد يحمله تزيين بدعته على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه ، أو لم يكن داعية ولكن حديثه موافق لما يدعو إليه ، ويرون في ذلك كله ما يشكك في صدقه وأمانته ، فالخلاف في التجريح بين أهل السنة وغيرهم راجع في الحقيقة إلى الشك بصدق الراوي وعدالته وضبطه لما يرويه ، وليس إلى مجرد الخلاف المذهبي الطائفي ، وهي قاعدة ثابتة عند المحدثين .

ولذلك وجدنا أصحاب الكتب الستة وفي مقدمتهم الشيخان يحتجون بأحاديث جماعة من المبتدعة الثقات في كتبهم ماداموا مستوفين لشروط الرواية ، فقد حدَّث البخاري عن عباد بن يعقوب الرواجني الذي كان يقول فيه ابن خزيمة : حدثنا الصدوق في روايته ، المتهم في دينه عباد بن يعقوب ، واحتج بمحمد بن زياد الألهاني وحريز بن عثمان الرحبي ، وهما ممن اشتهر عنهما النصب ، وعمران بن حطان الخارجي ، وأبان بن تغلب الذي قال فيه الذهبي : " شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته " ، وذلك لعمر الله قمة العدل والإنصاف .

فعلم مما سبق أن المحدثين لم ينطلقوا في توثيقهم وتجريحهم ، وتصحيحهم وتضعيفهم من الأهواء والأمزجة ، وإنما انطلقوا من قواعد متينة وأرض صلبة ، فاشترطوا في الجارح شروطاً عالية ، ومؤهلات دقيقة ، وجعلوا لذلك آداباً وأحكاماً ، وجوزوه بقدر الحاجة ، ولم يقبلوا منه إلا ما كان موافقاً للأصول والقواعد ، فجاءت أحكامهم في منتهى الدقة والنزاهة ، فجزاهم الله عن أمة الإسلام خير الجزاء .

__________
المراجع :
- أصول منهج النقد عند أهل الحديث د.عصام البشير
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الأمين الصادق الأمين
- دفاع عن السنة د. محمد أبو شهبة
- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي د.مصطفى السباعي
- منهج النقد في علوم الحديث د. نور الدين عتر

إرسال تعليق

 
Top