0

“ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم وبقينا في كنف كجلد الأجربِ”

شتانَ شتانَ بين مجتمع كان يديره النبي ومجتمع تديره قوانين مجلس الأمن. وشتان بين نساء عصر النبوة ونساء عصر التطور التكنولوجي والانفتاح الثقافي القاتل للحدود والحياء. أي أمة يقاس مدى تقدم حضارتها من نسائها؛ فالأمة المتقدمة حضاريا الرائدة ثقافيا تُبنى بحياء نسائها ورُشد عقولهن، والأمم المنحطة ما اكتسبت انحطاطها وتأخرها إلا بما صُدّر لنسائها بما كان دخيلا عليهن.

المتأمل في سير نساء رعيلنا الأول ونساء وقتنا الحالي تصيب عقله هُّوة فكرية وفجوة واضحة – أخلاقية كانت أو دينية- من التحول الملحوظ والعيون العمياء التي تقلد بلا تَفَكُّر، والقلوب الصلدة التي أتى عليها ما ليس من جنسها فأهلكتها. نساء اليوم تزاحم أكتافهن الرجال في ثغور الرجال رافعين شعار التهميش والجور الذي يقع عليهنّ وأن لا خلاص لهن سوى اثبات ذاتهنّ المُهَمشة تلك وسط المجتمع الذكوري الذي طالت سحابته السوداء عليهنّ. ولو تفكرت إحداهن قليلا في نماذج من نساء العصر النبوي والاتزان الديني الأخلاقي الثقافي العلمي السائد بين النساء في ذلك الوقت لما نطقن زورا ولا قُلنّ إثما.

من النساء الخالدات ذكرا وعلما الباقيات أثرا ما أبقى الدنيا الرحمنُ عائشة بنت عبدالله بن أبي قحافة زوجة محمد بن عبدالله القرشي سيد العجم والعرب.

وُلدت عائشة رضي الله عنها قبل الهجرة بسبعِ سنين لأبوين مسلمين وتنتمي نسبا إلى بني تيّم وتلتقي مع النبي في مرة بن كعب، فهي عائشة بنت أبي بكر عبدالله بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب وأمها أم رومان بنت عامر كانت ممن هاجر.

في صحراء شبه الجزيرة التي تضم في بطنها عشرات المؤودات، ومجتمع يترأسه الجاهل أبو جهل وأبو لهب الذي يتقد قلبه على الدين الجديد، وهجرة مَثلَت حدثا فاصلا بين عهديّن نشأت عائشة. فما كان للعظيم سوى العظمة دائما وأبدا ومن أعظم ما تفضل به الله على عائشة رضي الله عنها زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم.

قبل الهجرة بسنتين جاءت خَولة بنت حكيم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم تسأله أن يتزوج فسألها ومن؟ فقالت “إن شئتَ بِكرا وإن شئتَ من الثيب” فذكرت له البكر عائشة والثيب سودة بنت زمعة فقال النبي فاذكريهما عليّ فذهبت خولة لأم رومان بنت عامر وذكرت لها الأمر فقالت انتظري فإن أبا بكر آت وكان المطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، فأتى أبو بكر المطعم فقال ما تقول في أمر هذه الجارية فسأل مطعم بن عدي زوجته فقالت لأبي بكر “لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصيبه وتدخله في دينك الذي أنت عليه” فرأى أبو بكر في ذلك إبراء لذمته من خطبة المطعم لعائشة وقال لخولة قولي لرسول الله فليأتِ فجاء النبي وخطبها.

وما تزوج النبي بِكرا غير عائشة وبنى بها بعد غزوة بدر في شوّال، فكانت رضي الله عنها تقول “تزوجني رسول الله في شوال وبنى بي في شوال فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني؟!” كانت رضي الله عنها أحب زوجاته إليه فقد سُئل ذات مرة “من أحب النساء إليك فقال عائشة، فقيل ومن الرجال فقال أبيها”.

فضل عائشة وعلمها

قال الحاكم في مستدركه “إن ربع أحكام الشريعة نُقِلَت عن السيدة عائشة”. وقال في موضع آخر في مستدركه “ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام والعلم والشعر والطب من عائشة أم المؤمنين”. وقال الأحنف بن قيس “سمعت خطبة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والخلفاء هلم جرا إلى يومي هذا فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من في عائشة رضي الله عنها”. وقال مسروق بن الأجدع “رأيتُ مشيخة أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض كما كان عمر يحيل إليها كل ما يتعلق بأحكام النساء “. وقال الزهري “لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل”.

وقال أبو موسى الأشعريّ “ما أُشكل علينا أصحاب رسول الله حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما”. كما ألّفَ بدر الدين الزركشيّ كتابا ذكر فيه كل المسائل التي قيل أن عائشة استدركتها على الصحابة وسماه “الإجابة لما استدركته عائشة عن الصحابة”.

كانت حجرتها رضي الله عنها مركز استقطاب لطلبة الحديث وقال الذهبي في ذلك أن أكثر من مئة شخص روى عن عائشة. وعدّ أحاديث السيدة عائشة التي نقلتها فبلغت 2210 منها 174 متفق عليه و45حديث في البخاري و69 حديث في مسلم.

أكبر مدافعة عن حقوق النساء

عندما تتزن حقوقنا ومطالبنا بميزان الشرع ونلتزم نحن بهذا الميزان قلبا وقالبا لن نرى المسترجلات الممسوخات بين ظهرانينا.

كانت عائشة صوت النساء عند رسول الله وكانت الفم المدافع عنهنّ بعد موته صلى الله عليه وسلم وكانت اللسان السليط العاتب عليهنّ إذا رأت منهنّ غلُوا وانحرافا.

روت عائشة أن الرجل كان يطلق امرأته ما شاء ثم يرجعها في عدتها وإن طلقها مئة مرة حتى قال رجل لامرأته “والله لا أطلقكِ فتبيني مني ولا أويكِ أبدا” فقالت وكيف ذلك؟ قال “أطلقكِ فكلما همت عدتكِ أن تنقضي راجعتكِ”. فذهبت المرأة تخبر السيدة عائشة فأخبرت السيدة عائشة النبي فنزل الوحي بآية الطلاق وبعد وفاة النبي بلغها أن أبا هريرة يحدث أن النبي كان يقول “إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار” فغضبت رضي الله عنها وقالت “كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدّث بهذا عن رسول الله، إنما قال النبي كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار” ثم قرأت قوله تعالى “ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير”. كما كانت تقف بالمرصاد لمن تخالف وتحدث في الدين ما ليس منه  فقد روى عنها أن بعض النساء دخلنّ عليها يوما فقالت ممنّ أنتنّ فقلنّ من أهل الشام فقالت لعلكنّ من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات فقلن نعم فقالت “أما إني قد سمعت رسول الله يقول ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله”. ولما رأت ما غيرت النساء في ملابسهنّ بعد وفاة النبي قالت “لو أدرك رسول الله ما أحدث النساء لمنعهنّ المسجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل”.

توفيت رضي الله عنها وأرضاها ليلة الثلاثاء 17 رمضان عام 57من الهجرة وقيل 58 وقيل 59 وصلى عليها الصحابة ودفنت بالبقيع.

يا بنت الإسلام، إن الدفاع عن حقوق المرأة سبقتك إليه زوجة خير خلق الله. ولم يمنعها هذا من الالتزام بدينها، بل كان الإسلام هو المُحرّض لها على الدفاع عن حقوق المرأة في إطار شريعته الحكيمة. كذلك كان للصحابيات ثغورهن التي يقفن عليها، وهذه الثغور تختلف عن ثغور الرجال لاختلاف طبيعة كلا من الرجل والمرأة. فدعي دعاوي المُسترجِلات وقفي على ثغرك بما حباك الله من فهم وعلم، فالدين يحتاجك في ثغرك وليس في ثغر الرجال.

المصدر امة بوست

إرسال تعليق

 
Top