أما بعد، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون!
لما كان الظلم من شيم النفوس، وكان فشوه سبباً في خراب الديار وفساد العيش واضطراب الأمور؛ أقام الله - سبحانه - دون تقحم دركاته حواجز تمنع من قربانه والاسترواح إليه أو السكوت عن قبيح صنيع أهله، فضلاً عن إعانتهم والرضى بفعلهم! ألا وإن من أشد تلك الحواجز إزالةَ الحجب عن دعوة المظلوم، وسرعة إجابة الله لها؛ وذاك ما يوجب الوجل من ولوج مستنقع المظالم والتلطخ بأوضارها. يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: " اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَاب " رواه البخاري ومسلم. والتعبير بمنع الحجاب دون دعوة المظلوم أبلغ في تحقق الاستجابة؛ ولذا جاء نفي الارتياب في وقوعها فقال صلى الله عليه وسلم: " ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ " رواه أبو داود وحسنه الألباني.
ودعوة المظلوم لها شأن في السماء، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " رواه أحمد وهو صحيح بشواهده. ومَعْنَى ذلك – كما قال أهل العلم -: أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُوَكِّلُ مَلَائِكَتَهُ بِتَلَقِّي دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَبِحَمْلِهَا عَلَى الْغَمَامِ، فَيَعْرُجُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ - وَالسَّمَاءُ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ -؛ لِيَرَاهَا الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ، فَيَظْهَرُ مِنْهُ مُعَاوَنَةُ الْمَظْلُومِ، وَشَفَاعَةً مِنْهُمْ لَهُ فِي إِجَابَةِ دَعَوْتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ. يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: " «إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ! فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ كَشَرَارَاتِ نَارٍ حَتَّى يُفْتَحَ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ» رواه ابن أبي شيبة.
أيها المسلمون!
وسر سرعة إجابة دعوة المظلوم اضطراره، وإخلاصه، وانكسار قلبه، ونشدانه ربَّه حقَّه القائل: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [النمل: 62]؛ ولذا فإن دعوة المظلوم مجابة وإن كان فاجراً أو كافراً، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: " دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً؛ ففجوره على نفسه " رواه أحمد وحسنه الهيثمي وابن حجر؛ فسعة عدل الله توعب المؤمن والكافر والبر والفاجر. وأحرى دعوات المظلومين بالإجابة دعوة عاجز عن رد الظلم عنه إلا بدعائه وماء عينه؛ لعظم انكسار قلبه، وإفلاسه من الخلق، والله عند المنكسرة قلوبهم لأجله، يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: " إِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَظْلِمَهُ لَرَجُلٌ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَسْتَعِينُهُ عَلَيَّ إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ "، وكان يزيد بن حكيم يقول: " ما هبت شيئاً قط هيبتي رجلاً ظلمته، وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله؛ فيقول لي: حسبك الله! الله بيني وبينك "، وقال الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبها ظلم من لا ناصر له إلا الله، وقيل: خافوا ظلم من لا ينتصر من ظُلمه إلا بدمع عينيه!
احذر عداوة من ينام وطرفه ** باك يقلب وجهه نحو السما
يرمي سهاماً ما لها غرض سوى ال ** أحشاء منك فربما ولعلَّما
قال عمرو بن دينار: " كان من بني إسرائيل رجل قائم على ساحل البحر، فرأى رجلا وهو ينادي بأعلى صوته: ألا من رآني فلا يظلم أحدا، قال: فدنوت منه، وقلت له: يا عبد الله، ما قصتك؟ وما الذي بك؟ فقال: ادن مني أخبرك؛ كنت رجلا شرطيا، فجئت إلى هذا الساحل، فرأيت رجلا صيادا قد اصطاد سمكة، فسألته أن يهبها لي، فأبى، فسألته أن يبيعنيها، فأبى، فضربت رأسه بسوط كان معي وأخذت منه السمكة وحملتها إلى منزلي وقد ضربت (آلمتني) علي إصبعي التي علقت بها السمكة، وأصلحوها وقُدِّمت إلي فضربت علي إصبعي حتى صحت وبكيت، وكان لي جار معالج فأتيته وقلت: إصبعي، فقال: هو أكلة (مرض كالغرغرينا) إن أنت رميت بها وإلا هلكت، فرميت بها فوقع الضربان (الألم) في عضدي فخرجت من منزلي هاربا على وجهي أصيح وأبكي، فبينا أنا أسيح في البلاد وقعت لي شجرة دوحاء فأويت إليها ونعست، وأتاني آت فقال لي: لم تقطع أعضاؤك وترميها؟! رُدَّ الحق إلى أهله وانج، قال: فانتبهت فعلمت أن ذاك من قبل الله عز وجل، فأتيت الصياد فوجدته يخرج شبكته فانتظرته حتى أخرجها وإذا فيها سمكة كبيرة، فدنوت منه وقلت: يا عبد الله! إني مملوكك فأعتقني، فقال: ما أعرفك، قلت: أنا الشرطي الذي ضربت رأسك بالسوط وأخذت سمكتك، وأريته يدي فلما رآني على تلك الحالة رَقَّ لي وقال: أنت في حل، فأقبل الدود يتناثر من يدي ويسقط على الأرض، فهاله ذلك وانصرف، فاستوقفته وأخذته إلى منزلي ودعوت بابني وقلت له: احفر في هذه الزاوية فأخرج منها جرة فيها ثلاثون ألف درهم، فقلت: اعدد منها عشرة آلاف،خذها فاستعن بها، ثم قلت: خذ منها عشرة آلاف زيادة أخرى اجعلها في فقراء جيرانك وقراباتك، فقام لينصرف، فقلت: أخبرني؛ دعوت علي؟ فقال: أنا أخبرك، لما أخذت السمكة مني وضربت رأسي رفعت رأسي إلى السماء وبكيت وقلت: يا رب خلقتني وخلقته، وجعلته قويا وجعلتني ضعيفا، ثم سلطته علي؛ فلا أنت منعتني من ظلمه، ولا أنت جعلتني قويا فامتنع من ظلمه، فأسألك بالذي خلقته قويا وجعلتني ضعيفا أن تجعله عبرة لخلقك؛ فبكيت وقلت: لقد سمع الله عز وجل دعاءك وجعلني عبرة ".
عباد الله!
وإعجاب الظالم بقوته وغفلته عن دعوة المظلوم واستخفافه بها من أعظم أسباب صرعته وأخذ الله له على غرة، كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: " أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقِ اللهَ فِيمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ، وَلَا تَأْمَنْ مِنْ مَكْرِهِ فِي تَأْخِيرِ عُقُوبَتِهِ، فَإِنَّمَا يُعَجِّلُ الْعُقُوبَةَ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ ". وحين حلت النكبة بالبرامكة على يد هارون الرشيد، وزج بهم في السجون والقيود بعد أن كانوا وزراءه، قال ابن ليحيى بن خالد البرمكي: يَا أَبَتِ! بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّعْمَةِ صِرْنَا إِلَى هَذَا الْحَالِ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ وَنَحْنُ عَنْهَا غَافِلُونَ وَلَمْ يَغْفُلِ اللَّهُ عَنْهَا. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ قَوْمٍ قَدْ غَدَوْا فِي نِعْمَةٍ ** زَمَنًا وَالدَّهْرُ رَيَّانُ غَدَقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ** ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
يقول ابن الجوزي: " يا معاشر الظلمة! لا تعربدوا في سكر القدرة؛ فصاحب الشرطة بالمرصاد... وقد رأيتُ وفي الأيام تجريب ". كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: " أمّا بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله عليك وفناء ما تؤتي إليهم وبقاء ما يؤتون إليك، والسلام ". وقال ابن القيم: " لا تحتقر دعاء المظلوم؛ فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك. ويحك! نبال أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت. قوسه قلبه المقروح، ووتره سواد الليل، وأستاذه صاحب " لأنصرنك ولو بعد حين ". وقد رأيتَ ولكن لست تعتبر. احذر عداوة من ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاء منك! ".
فإياك من ظلم العباد فإنما... إلى الله من أكبادهم تصعد الشكوى
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون!
إن إجابة الله دعوة المظلوم حق أوجبه على نفسه وإن كان الظلم لم يقع إلا على واحد؛ فكيف بما زاد واستمر؟! وإجابة تلك الدعوة قد تكون بِالنُّصْرَةِ عَلَى الظَالِمِ بِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ مِنْ قَهْرٍ لَهُ، أَوِ اقْتِصَاصٍ مِنْهُ، أَوْ تَسْلِيطِ ظَالِمٍ آخَرَ عَلَيْهِ يَقْهَرُهُ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بما كانوا يكسبون ﴾، وأشد من ذلك أن يُملى للظالم سادراً في ظلمه؛ زيادة له في إثمه؛ كيما يزاد عليه في عذاب الآخرة، ﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 26]، ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178]. قيل لعمر رضي الله عنه: كان الرجل في الجاهلية يُظلم، فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلا ولا نرى ذلك في الإسلام! فقال: كان هذا جزاء بينهم وبين الظلم، وإنّ موعدكم الآن الساعة، والساعة أدهى وأمرّ!
هذا، وإن مما يمنع إجابة دعوة المظلوم أن يتجاوز في دعائه على ظالمه قدر مظلمته؛ فيكون ظالماً بذلك الدعاء؛ كأن يدعو على أولاد الظالم وزوجه مع عدم جنايتهم. قال رَبَاحُ بْنُ عُبَيْدَةَ: " كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَذُكِرَ الْحَجَّاجُ فَشَتَمْتُهُ، وَوَقَعْتُ فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَهْلًا يَا رَبَاحُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ لَيُظْلَمُ بِالْمَظْلَمَةِ، فَلَا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَشْتِمُ الظَّالِمَ وَيَنْتَقِصُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ فَيكُونُ لِلظَّالِمِ عَلَيْهِ الْفَضْلُ "، وسمع محمد بن سيرين رجلاً يدعو على من ظلمه، فقال: أقصر يا هذا؛ لا يربح عليك ظالمك! وسمع مُسْلِم بْن يَسَارٍ رَجُلاً يدعو عَلَى رَجُلٍ ظَلَمَهُ، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: " كِلِ الظَّالِمَ إِلَى ظُلْمِهِ؛ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنْ دُعَائِكَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِعَمَلٍ، وَقَمِنٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ! ".
فطوبى لمن سلم من سهام دعاء المظلومين وبرئ من ظلمهم وخصامهم يوم الدين! وذاك ما كان النبي يتعوذ منه في وقت إجابة الدعاء، فقد كان من دعائه أثناء سفره: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرَ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَمِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
إرسال تعليق