فمنها : أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه،
ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه واللجأ
إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية
والأخروية ما لم يحصل بدونه.
ومنها : خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما
شاهدوه. وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنـزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم. ولا
ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى، وخضوعٌ آخر،
وخوفٌ آخر، كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذ رأوه قد أهان أحدهم الإهانة
التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها أنه سبحانه جعله عبرةً لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته،
كما جعل ذنب أبي البشر عبرةً لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى
ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرةً لمن أصرّ وأقام على
ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه. فلله كم في ضمن ذلك من الحكم
الباهرة والآيات الظاهرة.
ومنها أنها محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم. فإنه سبحانه خلق
النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن، والطيب والخبيث، فلا بد أن يظهر
فيهم ما كان في مادتهم، كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعاً "إن الله خلق
آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث
والسهل والحزن". وغير ذلك فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها.
فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره. فلا بد إذاً من سبب يُظهر ذلك. وكان
إبليس محكاً يميز به الطيب من الخبيث، كما جعل أنبياءه ورسله محكاً لذلك
التمييز. قال تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز
الخبيث من الطيب) فأرسل رسله إلى المكلفين وفيهم الطيبُ والخبيث، فانضاف الطيب
إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث. واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان
. فإذا صاروا إلى دار القرار ميز بينهم وجعل لهؤلاء داراً على حدة ولهؤلاء
داراً على حدة. حكمةٌ بالغة وقدرة قاهرة.
ومنها أن يظهر كمالُ قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين. وذلك
من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه. فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض،
والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث.
ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده. فإن الضد إنما يظهر حُسنه بضده. فولا
القبيح لم تُعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يُعرف قدر الغنى .
ومنها : أنه سبحانه يحب أن يُشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه
نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل
لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن
ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.
ومنها : أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى
الله سبحانه، وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته
على كل ما سواه، فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في
خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يُحصي حكمها وفوائدها
وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها أن في خلق من يُضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب
قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه، كما تقدم من ظهور
آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار ، وأضعاف ذلك من
آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته، فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب
عليها ذلك كما تقدم.
ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد، وفيها الإشراق والإضاءة
والنور، فأخرج منها سبحانه هذا وهذا، كما أن المادة الترابية الأرضية فيها
الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض، فأخرج منها ذلك كله
حكمةً باهرة، وقدرةً قاهرة، وآية دالة على أنه: (ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير).
ومنها أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم. وهذه
الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها إحكامها كأسماء الإحسان والرزق والرحمة
ونحوها. ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه.
ومنها : أنه سبحانه الملك التام الـمُلك، ومن تمام ملكه عموم تصرفه، وتنوعه
بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال. فلا بد من
وجود من يتعلق به أحدُ النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.
ومنها : أن من أسمائه الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه، وحكمته تستلزم وضع كل
شيء موضعه الذي لا يليق به سواه، فاقتضت خلق المتضادات وتخصيص كل واحد منها لا
يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص. وهل تتم الحكمة إلا بذلك ؟ فوجود
هذا النوع من تمام الحكمة، كما أنه من كمال القدرة.
ومنها أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمودٌ على عدله ومنعه
وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمودٌ على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله
الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه
ملائكته ورسله وأولياؤه، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال
حمده وتمامه ، فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة ، كما له عليه الحمد التام ،
فلا يجوز تعطيل حمده ، كما لا يجوز تعطيل حكمته.
ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده،
فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه،
بل يسبه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكن له
من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم، ويجيب الدعاء، ويكشف عنه السوء، ويعامله
من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من
حكمةٍ وحمد، ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته، كما في الصحيح عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد
وهو يرزقهم ويعافيهم"، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه:
"شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه
إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي
كفؤاً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني" وليس أول الخلق بأهون
عليه من إعادته، وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب،
ويعافيه، ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله
بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله، ويأمرهم بأن
يُلينوا له القول ويرفقوا به، قال الفضيل بن عياض: "ما من ليلةٍ يختلط ظلامها
إلا نادى الجليل جل جلاله: "من أعظم مني جوداً، الخلائق لي عاصون وأنا أكلأهم
في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا، أجود بالفضل على
العاصي، وأتفضل على المسيء. من ذا الذي دعاني فلم ألبِّه، ومن ذا الذي سألني
فلم أعطه، أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومن كرمي أني أعطي
العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني،
فأين عني يهربُ الخلق ؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون ؟". وفي أثر إلهي: "إني
والإنس والجن في نبأ عظيم. أخلق ويُعبد غيري. وأرزق ويُشكر سواي". وفي أثر حسن
"ابن آدم ما أنصفتني، خيري إليك نازل وشرك إليَّ صاعد. كم أتحبَّب إليك بالنعم
وأنا غني عنك، وكم تتبغض إليّ بالمعاصي وأنت فقير إلي. ولا يزال الملك الكريم
يعرج إليّ منك بعمل قبيح". وفي الحديث الصحيح "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم
ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته
اقتضى حمدهُ وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر فيهم أحكامها وأثارها. فلمحبته للعفو
خلق من يحسن العفو عنه. ولمحبته للمغفرة خلق من يُغفرُ له ويحلم عنه ويصبر عليه
ولا يعاجله، بل يكون يحب أمانه وإمهاله، ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يُظهر
فيهم عدله وحكمته. ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة
والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان. فلولا خلق من يجري على أيديهم
أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها.
فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة.
الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمةٌ باهرة، كما أن له فيه
قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منها قطرة من بحر . وإلا فعقول البشر أضعف وأقصر
من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه. فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب
المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه. والحكيم
الباهر الحكمة هو الذي يُحصِّل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه
ويسخطه إذا كان طريقاً إلى حصول ذلك المحبوب. ووجود الملزوم بدون لازمه محالٌ.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل ؛ فكم حصل بسبب
وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة
هوى النفس وشهوتها له. وتحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته. وأحب شيء
للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته.
من أجلك قد جعلت خدي أرضا
للشامت والحسود حتى ترضى
فإن أغضب هذا المخلوق ربه ؛ فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه. وذلك الرضا
أعظم من ذلك الغضب. وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه
سبحانه أشد فرحاً بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا
وجدها في المفاوز المهلكات. وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو
فقد سرّه وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه. وهذا
الرضا أعظم عنده وأبرُّ لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي
المحبوب، وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذللـه
بين يديه وانكساره له. وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك
الخروج فقد أرضاه أعظم الرضا دخوله إليها ذلك الدخول. وإن أسخطه قتلهم أولياءه
وأحباءه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها
ولا أنعم ولا ألذَّ في قربه وجواره. وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود
ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبرّه وكرمه وجوده والثناء
عليه بذلك وحمده وتمجيده بهذه الأوصاف التي حمده بها والثناء عليه بها أحب إليه
وأرضى له من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات. واعلم أن الحمد هو الأصل
الجامع لذلك كله. فهو عقد نظام الخلق والأمر، والرب تعالى له الحمد كله بجميع
وجوهه واعتباراته وتصاريفه. فما خلق شيئاً ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد.
فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره ، حمداً حقيقياً يتضمن محبته والرضا به وعنه
والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به. فتعطيل حكمته غير
تعطيل حمده ، فكما أنه لا يكون إلا حميداً فلا يكون إلا حكيماً، فحمده وحكمته
كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته. ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن
مقتضياتها وآثارها، فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبرياءه وعظمته.
إرسال تعليق