من الأحاديث التي كانت محل جدل عند البعض ، وأثيرت حولها العديد من الشبهات في القديم والحديث أحاديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أنها أحاديث صحيحة ثابتة ، بل في أعلى درجات الصحة ، ولا مطعن فيها بوجه من الوجوه ، فقد اتفق على إخراجها البخاري و مسلم ، ورواها غيرهما من أصحاب كتب الحديث كالإمام أحمد و ابن ماجه وغيرهم ، وإليك بيان روايات الحديث وما أثير حولها من شبهات وبيان وجه الحق في ذلك .
روايات الحديث
روى البخاري و مسلم واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : " سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم - أو ذات ليلة - وهو عندي ، لكنه دعا ودعا ، ثم قال : يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليَّ ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال : مطبوب ، قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلع نخلة ذكر ، قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذروان ، فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه ، فجاء فقال : يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء ، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين ، قلت : يا رسول الله ، أفلا استخرجته ؟ فقال : قد عافاني الله ، فكرهت أن أثوِّر على الناس فيه شراً ، فأمر بها فدفنت " .
وفي رواية للبخاري عن عائشة : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُحِر ، حتى كان يُرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال : سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا - ، وفي رواية قالت : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي ....
الشبه التي أثيرت حول الحديث
وما أثير حول هذا الحديث من شبه ليست جديدة في الحقيقة ، وإنما هي شبه قديمة أثارها أهل الزيغ والابتداع من قديم الزمان ، ورددها من جاء بعدهم ، فقد ذكر الإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتابه " تأويل مختلف الحديث " هذه الحديث من ضمن الأحاديث التي طعن فيها النظَّام وأمثاله من أئمة الاعتزال الذين لا يقيمون وزناً للأحاديث والسنن ، وزعم الجصاص أنه من وضع الملحدين ، وادعى أبو بكر الأصم أنه متروك ومخالف لنص القرآن .
ثم جاء بعض المعاصرين فتلقفوا هذه الآراء ، ورددوها تحت مسمى تحكيم العقل ، وطرح كل ما يتعارض مع مسلماته وثوابته ، ويمكن تلخيص الشبه المثارة حول الحديث في ثلاثة أمور .
الأول : أن الحديث وإن رواه البخاري و مسلم فهو حديث آحادي ، لا يؤخذ به في العقائد ، وعصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تأثير السحر في عقله ، عقيدة من العقائد ، فلا يؤخذ في إثبات ما يخالفها إلا باليقين كالحديث المتواتر ، ولا يكتفي في ذلك بالظن .
والثاني : أن الحديث يخالف القرآن الكريم الذي هو متواتر ويقيني ، في نفي السحر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فالقرآن نعى على المشركين ووبخهم على نسبتهم إثبات السحر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه :{ وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا }( الفرقان 8 - 9) ، وقال جل وعلا : { نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا }( الإسراء 47 - 48) .
الثالث : أنه لو جاز على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتخيل أنه يفعل الشيء وما فعله ، لجاز عليه أن يظن أنه بلَّغ شيئـًا وهو لم يبلِّغه ، أو أن شيئـًا ينزل عليه ولم ينزل عليه ، وهو أمر مستحيل في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه يتنافى مع عصمته في الرسالة والبلاغ .
الرد على الشبه
وقد تصدى أهل العلم لهذه الشبهات ، وأجابوا عنها بما يرد عن الحديث كل تهمة ، ويفند كل فرية ، فأما ما يتعلق بحجية أخبار الآحاد ، فإن الأدلة شاهدة من كتاب الله ، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف ، بل وإجماعهم - كما نقله غير واحد كالشافعي و النووي و الآمدي وغيرهم - على الاحتجاج بحديث الآحاد ، وقبول الاستدلال به في العقائد والعبادات على حد سواء ، وهي أدلة كثيرة لا تحصى ، وليس هذا مجال سردها ، وقد سبق الكلام عنها في مواضيع مستقلة في محور الحديث ، بعنوان ( حجية خبر الآحاد ، والشبهات حوله ) ( حديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام ) يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليها .
ويكفي وجود هذه الأحاديث في الصحيحين للجزم بصحتها وثبوتها، وقد أجمعت الأمة على تلقي كتابيهما بالقبول، وليست هي من الأحاديث المنتقدة حتى تستثنى من ذلك، وقد رُوِيت من طرق عدة في الصحيحين وغيرهما ، وعن غير واحد من الصحابة منهم : عائشة ، و ابن عباس ، و زيد بن أرقم - رضي الله عنهم- ، وغيرهم مما يبعد عنه احتمال الغلط أو السهو أو الكذب ، كما أثبتها واعترف بصحتها رواية ودراية كبار الأئمة الذي هم أرسخ قدمـًا في هذا الشأن ، وفي الجمع بين المعقول والمنقول كالإمام المازري و الخطابي ،و القاضي عياض ، والإمام النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، والإمام ابن كثير ، والإمام ابن حجر وغيرهم ممن لا يحصيهم العدُّ ، فهل كل هؤلاء الأئمة فسدت عقولهم ، فلم يتفطنوا إلى ما تفطن إليه أصحاب العقول ؟! ، أم أنه التسليم والانقياد ، وتعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم معارضته برأي أو قياس .
وأما أن الحديث مخالف للقرآن فهو دليل على سوء الفهم ، لأن المشركين لم يريدوا بقولهم :{إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحر فترة يسيرة بحيث لم يتعلق سحره بأمور الرسالة والتبليغ ، ثم شفاه الله ، وإنما أرادوا بقولهم ذلك إثبات أن ما يصدُر عنه ما هو إلا خيال وجنون في كل ما يقول وما يفعل ، وفيما يأتي ويذر، وأنه ليس رسولاً ، وأن ما جاء به ليس من الوحي في شيء ، وإنما هو خيال مسحور ، فغرضهم إنكار رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، وبالتالي فلا يلزمهم تصديقه ولا اتباعه .
ولا ريب أن الحال التي ذُكَرت في الحديث عروضها له - صلى الله عليه وسلم - لفترة خاصة ، ليست هي التي زعمها المشركون في شيء ، فلا يصح أن يؤخذ من تكذيب القرآن لما زعمه المشركون دليلاً على عدم ثبوت الحديث ، فنحن عندما نؤمن بما دل عليه الحديث لا نكون مصدقين للمشركين ولا موافقين لهم فيما أرادوا ، لأن الذي عناه الحديث غير الذي عناه أولئك الظالمون، وإذا ثبت ذلك لم يكن هناك تصديق ولا موافقة لهم .
وأما ادعائهم بأن هذا الحديث يتنافى مع عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة والبلاغ فإن الذين صححوا حديث السحر كالبخاري و مسلم وغيرهما ، ومن جاء بعدهما من أهل العلم والشراح ، قالوا إن ما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من جنس سائر الأمراض التي تعرض لجميع البشر ، وتتعلق بالجسم ولا تسلط لها على العقل أبداً ، وهو أمر يجوز على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قال القاضي عياض : " فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده ، وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده "
وقول عائشة : " أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله " إما أن يكون في أمور الدنيا لا في أمور الدين والرسالة ، وقياس أمور الوحي والرسالة على أمور الدنيا قياس مع الفارق ، فإنه بالنسبة لأمور الدين معصوم من الخطأ والتغير والتبدل لا يخالف في ذلك أحدٌ ، فللرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتباران : اعتبار كونه بشرًا ، واعتبار كونه رسولاً ، فبالاعتبار الأول يجوز عليه ما يجوز على سائر البشر ، ومنه أن يُسحر ، وبالاعتبار الثاني لا يجوز ما يخل بالرسالة لقيام الدليل العقلي والنقلي على العصمة منه . على أنه قد قال بعضهم : إنه لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ، أن يجزم بفعله ذلك ، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت .
وإما أن يكون ذلك التخيل في أمر خاص بينته الروايات الأخرى في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، هي رواية الإمام سفيان بن عيينة التي رواها عنه اثنان من كبار شيوخ البخاري الأول شيخه المُسْنَدي ، والثاني شيخه الإمام الحميدي ، وفيها تقول عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سحر حتى كان يُرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهنَّ ، قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك " . فهذه الرواية تبين ما في الرواية الأولى من إجمال ، وما هو هذا الشيء الذي كان يخيل إليه أنه فعله ولم يفعله ؟ ، قال القاضي عياض رحمه الله : " يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء ، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود " .
وسواء قلنا بهذا أو بذاك فليس في الحديث أبداً ما يخل بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالتبليغ والرسالة ، ولذلك قال الإمام المازري رحمه الله : " أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث - يريد حديث السحر - وزعموا أنه يحط منصب النبوة ، ويشكك فيها ، قالوا : وكل ما أدى إلى ذلك باطل ، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرَّعوه من الشرائع ، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثَمَّ ، وأنه يوحى إليه ولم يوح إليه بشيء ، وهذا كله مردود ، لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ ، والمعجزات شاهدات بتصديقه ، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل.
وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ، ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض ، فغير بعيد أن يُخَيَّل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين " ، قال : " وقد قال بعض الناس : إن المراد بالحديث أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن ، وهذا كثيرًا ما يقع تخيله للإنسان ، وهو في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة " أهـ .
ثم ما رأي المنكرين للحديث فيما ثبت في القرآن الكريم منسوباً إلى نبي الله موسى عليه السلام من أنه تخيل في حبال السحرة وعصيهم أنها حيات تسعى ، فهل ينكرون القرآن القطعي المتواتر ؟! وهل تخيله هذا أخل بمنصب الرسالة والتبليغ ؟! وإذا كان لا مناص لهم من التسليم بما جاء به القرآن الكريم ، فلم اعتبروا التخيل في حديث السحر منافيـًا للعصمة ؟! ولم يعتبروه في قصة موسى عليه السلام منافيـًا للعصمة ؟! .
لقد شاء الله سبحانه - وله الحكمة البالغة - أن يبتلي أنبياءه بشتى أنواع البلاء ليعلم الناس أنهم بشر مثلهم ، فلا يرفعوهم إلى درجة الألوهية ، وليزداد ثواب الأنبياء ، وتعظم منازلهم ودرجاتهم عند الله تعالى بما يلاقونه ويتحملونه في سبيل تبليغ رسالات الله ، وللإمام ابن القيم كلام حول هذا الموضوع نرى أن نختم به حديثنا ، حيث قال رحمه الله بعد أن ذكر الأحاديث الدالة على سِحر النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث ، مُتَلقَّى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته ، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم ، وأنكروه أشد الإنكار ، وقابلوه بالتكذيب ، وصنف فيه بعضهم مصنفـًا منفردًا حمل فيه على هشام - يعني ابن عروة بن الزبير - ، وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال : غلط واشتبه عليه الأمر ، ولم يكن من هذا شيء ، قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يُسْحَر ، فإنه تصديق لقول الكفار : {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا }( الإسراء 47 ، الفرقان 8) .... قالوا : فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يُسحروا ، فإن ذلك ينافي حماية الله لهم ، وعصمتهم من الشياطين .
قال : وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم ، فإن هشامـًا من أوثق الناس وأعلمهم ، ولم يقدح فيه أحدٌ من الأئمة بما يوجب رد حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن ؟ ، وقد رواه غير هشام عن عائشة ، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة ، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن ، والحديث ، والتاريخ ، والفقهاء ، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأيامه من المتكلمين ( ثم أخذ يذكر بعض الروايات في إثبات سحره - صلى الله عليه وسلم- ) . . . . . . إلى أن قال : والسحر الذي أصابه كان مرضـًا من الأمراض عارضـًا شفاه الله منه ، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما ، فإن المرض يجوز على الأنبياء ، وكذلك الإغماء ، فقد أغمي عليه -- صلى الله عليه وسلم - في مرضه ، ووقع حين انفكت قدمه ، وجُحِشَ شِقه ( أي انخدش ) ، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعةً في درجاته ، ونيل كرامته ، وأشد الناس بلاء الأنبياء ؛ فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس ، فليس ببدع أن يبتلى النبي - صلى الله عليه وسلم- من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه ، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد ، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك ، بل هذا من كمالهم ، وعلو درجاتهم عند الله " أهـ .
_________________
المراجع : - دفاع عن السنة الدكتور محمد محمد أبو شهبة حديث السحر في الميزان الدكتور سعد المرصفي - الأنوار الكاشفة للمعلمي
إرسال تعليق