0


من المعلوم أن الله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب لتوحيده وعبادته، وأن هناك أصولاً مشتركة اتفقت عليها جميع الأديان والرسالات، فالعقائد وأصول الفضائل والأخلاق والآداب والضرورات التي جاءت جميع الشرائع بحفظها، هذه أمور مقررة في كل دين، ولا تختلف باختلاف الأزمان، ولا باختلاف الرسالات قال سبحانه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى: 13)، وقال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء: 25).

وأما تفصيلات الشرائع العملية، فهي تختلف من دين لآخر، فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم آخرين؛ ولذا قال سبحانه: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة: 48).

ثم إن الكتب السماوية السابقة قد طواها الزمن ولم يصل إلينا منها غير التوراة والإنجيل، ولم يسلما مع ذلك من التحريف والتبديل، وأما القرآن فقد كتب الله له الخلود ، وحفظه من الضياع والتحريف والتبديل ، فجاء مصدِّقاً لما سبقه من الكتب، مؤكداً على الجانب الذي دعا إليه كل الأنبياء، وقامت عليه جميع الرسالات، وفي الوقت نفسه جاء مهيمناً وحاكما وشاهداً عليها ، يبين ما طرأ عليها من تحريف وتغيير وتبديل، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه فهو باطل ، وقد وصفه الله بهذين الوصفين بقوله: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} (المائدة: 48).

وقد كان لاختلاط المسلمين بأهل الكتاب ومجاورتهم لهم ودخول كثير منهم في الإسلام أثره في نقل كثير من أخبارهم إلى المسلمين، وهو ما اصطلح عليه العلماء بـ"الإسرائيليات" من باب التغليب، وإلا فإنه يشمل أخبار أهل الكتابين معاً اليهود والنصارى على حد سواء.

ولعل مما أسهم في انتقال تلك الأخبار أن من منهج القرآن في سرد القصص والحوادث الاقتصار على مواضع العظة والعبرة، وعدم التعرض للتفاصيل والجزئيات، والنفوس تتشوف لمعرفة جزئيات الحوادث، وتفصيل مجملات القصص، وأخبار بدء الخلق والتكوين وما أشبه ذلك، أضف إلى ذلك وجود الإذن النبوي في التحديث عن بني إسرائيل من غير حرج، فكان بعض الصحابة رضي الله عنهم يسألون عن ذلك بالقدر الذي يرون أنه موضح للقصة، ومبين لما أجمل في القرآن، من غير أن يخرجوا عن دائرة الجواز والإذن النبوي.

ولكن الناس بعد ذلك توسعوا في رواية هذه الأخبار فدخلت كثير من أباطيل أهل الكتاب وخرافاتهم وترهاتهم على المسلمين، ونسب الكثير منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى صحابته رضوان الله عليهم وإلى أئمة الإسلام، حتى اتخذها بعض المتأخرين مادة يشرحون بها نصوص القرآن وملئت بها كتب التفسير، مما شكل خطراً بالغاً على عقائد المسلمين بما تضمنته من تشبيه لله تعالى، ووصفه بما لا يليق بجلاله وكماله، وبما يتنافى مع عصمة الأنبياء والمرسلين، إضافة إلى تشويهها لصورة الإسلام، وتصويره في صورة دين خرافي يستخف بالعقول ويعنى بالترهات والأباطيل.

وقد دخل في الحديث من ذلك ما دخل في التفسير، وكان الذين دسوا مثل هذه الأخبار ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعم الأغلب طائفتان هما: الزنادقة الذين أظهروا الإسلام ودخلوا فيه عن خبث طوية بغرض الطعن والافتراء، والقصاص الذي روجوا لتلك الأخبار ليستميلوا وجوه العوام إليهم، ويستدروا ما عندهم عن طريق التحديث بالمناكير والغرائب والأكاذيب، وقد وجدت هاتان الطائفتان في مرويات أهل الكتاب وأساطير القدماء مادة خصبة لتحقيق أغراضهم.

ولم يكن أمرهم ليخفى على المحدِّثين الذين تصدوا لهذه الظاهرة، وكشفوا حقيقة هذه الأخبار وبينوا زيفها وكذبها، ووزنوا الروايات بميزان دقيق ، وطبقوا عليها منهجهم الفريد في النقد وسبر المرويات، شأنها شأن غيرها من الأخبار المختلقة الموضوعة، كما يظهر ذلك من خلال ما كتبوه في علوم الحديث وتراجم الرجال، والأحاديث الموضوعة والمشتهرة على الألسنة، إلى غير ذلك.

ومع ذلك اتخذت هذه الإسرائيليات -مع الأسف الشديد- مدخلاً للطعن في أئمة الإسلام وعلمائه ممن كان لهم في الإسلام قدم راسخة، حتى كادت تذهب بالثقة في بعض الصحابة والتابعين الذي عرفوا بالثقة والديانة، واشتهروا بين المسلمين بالتفسير والحديث، وذلك بسبب ما أسند إليهم من هذه الإسرائيليات، حيث اتهموا بأبشع الاتهامات من قبل بعض المستشرقين ومن مشى في ركابهم، وعدُّوهم مضللين مدسوسين على الإسلام وأهله.

وإليك طائفة من أقوالهم لترى كيف اتفقت كلمتهم ، وتوحدت آراءهم ، وكأنها خرجت من مشكاة واحدة ، مما يدل على وحدة المصدر والهدف والغاية.

يقول "جولد زيهر" في كتاب "المذاهب الإسلامية في التفسير": "ومن بين المراجع العلمية المفضلة عند ابن عباس نجد أيضاً كعب الأحبار اليهودي، وعبد الله بن سلام، وأهل الكتاب على العموم ممن حذر الناس منهم، كما أن ابن عباس نفسه في أقواله حذر من الرجوع إليهم، ولقد كان إسلام هؤلاء عند الناس فوق التهمة والكذب، ورُفِعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم... ورجعوا إليهم سائلين عن هذه المسائل بالرغم من التحذير الشديد - من كل جهة - من سؤالهم" أهـ.

وتبعه أحمد أمين على هذا الرأي حيث قال في "فجر الإسلام": "وقد دخل بعض هؤلاء اليهود في الإسلام، فتسرب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار، ودخلت في تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس عن أخذ أقوالهم، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)، ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يصدقونهم وينقلون عنهم" أهـ ، وقال في "ضحى الإسلام": "كذلك أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالاً من الإنجيل دست على أنها أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم".

وأما الشيخ رشيد رضا فقد كان من شدة إنكاره للإسرائيليات وتعنيفه على من روجوا لها، ربما أخذه الحماس إلى حدِّ النيل والطعن في بعض من نسبت إليهم هذه الإسرائيليات بحق أو بباطل، وإلى حدِّ غمْزِ المحدثين ورميهم بالتقصير وقلة الاطلاع والاغترار بهم، لأنهم وثَّقوهم وخرَّجوا أحاديثهم، حيث قال في مجلة المنار: "ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه...، ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب، وكان يصدقه"، وقال في موضع آخر وهو يناقش بعض الكتاب: "ولا يهولنه انخداع بعض الصحابة والتابعين بما بثاه -يقصد كعب الأحبار ووهب بن منبه- هما وغيرهما من هذه الأخبار فإذا صدق بعض الصحابة، كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل، وهو من أحبارهم أو في غير ذلك، فلا يستلزم هذا إساءة الظن فيهم" أهـ ، وقال: "ثم ليعلم أن شرَّ رواة هذه الإسرائيليات، أو أشدهم تلبيساً وخداعاً للمسلمين هذان الرجلان "واستَشْهد بما جاء في صحيح البخاري عن معاوية في شأن كعب: "إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب".

وأما "محمود أبو رية" فقد كان أشد القوم إسفافاً وطعناً وتجنياً على الصحابة والتابعين حيث عقد فصلاً في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" بعنوان: "الإسرائيليات والحديث" بين فيه منشأها حسب زعمه، وتعرض لعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه، وأمثالهم من علماء أهل الكتاب الذي أسلموا وحسن إسلامهم، متهماً إياهم بالمكر والدهاء والتظاهر بالدخول في الإسلام للطعن والدس فيه، وهدم أصوله وأركانه، ونال أكثر ما نال من كعب واعتبره الصهيوني الأول، وصوَّر الصحابة في صورة البُلَهاء السُّذَّج المغرر بهم الذين يصدقون كل ما يلقى إليهم من غير وعي ولا تمحيص.

يقول "أبو رية": "وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكراً، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى، وأن المسلمين قد سكنوا إليهم واغتروا بهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات، وأوهام وترهات، لكي تهي هذه الأصول وتضعف، ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالتدوين، واستظهره آلاف من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف اتجهوا إلى التحدث عن النبي فافتروا ما شاءوا أن يفتروا عليه من أحاديث لم تصدر عنه... إلى أن قال: ويسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون من أمور العالم الماضية، واليهود بما لهم من كتاب، وما فيهم من علماء كانوا يعتبرون أساتذة العرب فيما يجهلون من أمور الأديان السابقة، إن كانوا مخلصين صادقين".

ثم قال: "وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم، وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتبهم، ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاء وأضعف مكراً، وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب، وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص، معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه" أهـ.

وهذا الكلام كله يمكن إجمال الرد عليه في محورين رئيسين:

الأول: ما يتعلق باتهام الصحابة بالتوسع في الأخذ عن أهل الكتاب، من غير وعي ولا تمحيص، ورميهم بالانخداع والغفلة والسذاجة.

الثاني: ما يتعلق بالطعن في بعض من أسلموا من أهل الكتاب، وحَسُن إسلامهم وعُرِفوا بالعلم والفضل، والعدالة والثقة والعدالة، واتهامهم بأن غرضهم الدسيسة والكيد للإسلام وأصوله.

وسوف نفصل القول في هذين المحورين في مقال لاحق بإذن الله تعالى.

إرسال تعليق

 
Top